تخطئة المصنف في قوله: وأهله في أصله سواء
وقوله: (وأهله في أصله سواء) العبارة خطأ، وكانت العبارة صحيحة بغض النظر عن خطئها في الواقع، ولكي نصحح العبارة لا بد أن نقول: والإيمان واحد، وأهله فيه سواء. فأصبحت العبارة غير متناقضة، لكنها خطأ في العقيدة من ناحية اللفظ فقط، أو نقول: وأصل الإيمان واحد، وأهله فيه سواء، أي: في أصله، ويتفاضلون بالخشية والتقى، والعبارة غير صحيحة، فهي مضطربة ومتناقضة، والصحيح أن نقول: والإيمان يزيد وينقص. وهي مقابل قوله: الإيمان واحد، وأهله يتفاوتون فيه، فهذا هو الكلام الصحيح الموافق والمطابق لعقيدة أهل السنة والجماعة وإجماع السلف، وحقيقة الإيمان واحدة، وأهله متفاوتون فيه على معنى أن الإيمان له حقيقة أو ماهية واحدة، أي: أن الإيمان في ذاته شيء واحد، لكن بالنسبة لأهله فهم متفاوتون فيه، فنقول: هل يوجد شيء بذاته خارج أفراده؟ إذا قلنا: إن حقيقته واحدة، وأهله متفاوتون، فهذه هي القضية المنطقية التي يقولها المناطقة ، ونرد عليهم فنقول: أنتم تقولون: إن ماهية الإيمان واحدة، لكن الأفراد يتفاوتون ويختلفون، ويضربون مثالاً فيقولون: الإنسان حيوان ناطق، فالإنسانية واحدة، أو الحيوانية والمناطقية ماهية واحدة، لكن الأفراد أو الأعيان يختلفون فيها، فنسأل: هل توجد الناطقية والحيوانية في خارج الأفراد؟ هل توجد أيضاً الماهية الإيمانية خارج الأفراد؟ لا توجد، إنما توجد تصوراً فقط، فأنا أصور الإيمان بأنه قول وعمل، ويتركب من كذا وكذا، لكن بالنسبة للأفراد في الخارج فلا يوجد إلا الأعيان، أما الماهيات المجردة فلا توجد إلا في الأذهان، لذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكرر هذه العبارة: (خلطوا ما في الأعيان بما في الأذهان)، أي: المتكلمون والفلاسفة ، فعندما نقول: حقيقة الإيمان واحدة، ليس لها معنى، إذ ما معنى أن تكون حقيقة الإيمان واحدة، وأهله يتفاضلون فيه؟ لأننا نقول: الإيمان تعريفه كذا، فهذا التصور الذي في الذهن هو التعريف، وحده -كما يسميه المناطقة - واحد، لكن التفاوت بين أهله طبيعي، لهذا نقول: الإيمان متفاوت؛ لأنه أصلاً لا يوجد إلا في أهله، وأهله في أصلهم متفاوتون، والإيمان متفاوت، بل نزيد إيضاحاً عندما نقول: الإيمان نعني به: ما يؤمن به، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله... إلخ )، وقال تعالى: (( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ... ))[البقرة:285]، فهل ما يؤمن به واحد؟ أي: هل ما دعا إليه نوح عليه السلام هو نفس ما دعا إليه محمد في مجموع واحد، أم يتحدون في شيء ويختلفون في شيء؟ يتحدون في الملة، أي: في العقيدة والتوحيد، أما الشرائع و الأحكام فإنهم يختلفون، إذاً يتفقون في الجملة ويختلفون على التفصيل، فعندما بعث الله نوحاً كان يطلب من قومه أن يؤمنوا به، لكن هل كان على نوح أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ))[آل عمران:81]؟ فما بعث الله رسولاً ولا نبياً إلا أخذ عليه العهد بالإقرار والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا موضوع آخر، أي: هل كان يجب على قوم نوح أن يؤمنوا بإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؟ لا، ولذلك لما بعث الله موسى كان مما يجب أن يؤمن به قومه أن يؤمنوا بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، لكن عيسى ويحيى وداود وسليمان لم يكن يجب عليهم أن يؤمنوا بهم؛ لأنهم لما يأتوا بعد، بينما نحن يجب علينا أن نؤمن بهؤلاء جميعاً، من محمد صلى الله عليه وسلم إلى آدم، وعليه فكل أمة تؤمن بالرسل، لكن من الرسل؟ تفصيلها يختلف، وأما بالنسبة للكتب فقد أنزل الله صحف إبراهيم، فكان واجباً عليه وعلى قومه أن يؤمنوا بهذه الصحف، ولا يجب عليهم أن يؤمنوا بـالتوراة، ما نزلت؛ لأنها بعد، كذلك لا يجب على أهل التوراة أن يؤمنوا بـالإنجيل؛ لأنه ما نزل بعد، كما لا يجب عليهم أن يؤمنوا بالقرآن كله؛ لأنه ما نزل بعد، لكن لما نزل القرآن وجب علينا أن نؤمن بالجميع، ولما نزل الإنجيل وجب على أهله أن يؤمنوا بـ التوراة وبـ صحف إبراهيم وهكذا، إذاً الإيمان بالكتب متفاوت، ما يؤمن به اختلف، والتمثيل بهذا واضح، وقد يقال: هذا بالنسبة لما قبل بعثة صلى الله عليه وسلم، فهل هذا واقع في هذه الأمة أيضاً؟ وهل هناك تفاوت فيما يؤمن به؟ نعم، وذلك بحسب الشرائع والتدرج، والصحابة أنفسهم في أول الأمر -آمنوا بشيء، ثم زاد فآمنوا به، ثم زاد حتى اكتمل الدين، وما بعدهم بحسب العلم والبلاغ، ولذلك هل إيمان الراسخ في العلم من العلماء مثل إيمان العامي حديث عهد بالبادية؟ لأن ما يؤمن به يختلف، فهذا يؤمن بالقرآن على التفصيل، وهذا يؤمن بالسنة على التفصيل، فهو يحفظها أو يحفظ جملة كبيرة منها، سواء من الأحكام الفقهية أو غيرها، فيؤمن بأشياء كثيرة، لكن هذا الذي جاء من البادية يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم حق، وأن والله واحد، وأن الصلاة واجبة، وأن الزكاة واجبة، وأن الصوم واجب، ولا يعلم غير هذا.إذاً ما يؤمن به متفاوت، وبالتالي أليس طبيعياً قطعاً أن المؤمنين متفاوتون؟! نعم؛ لأنه إذا اختلف الناس في نفس ما يؤمن به لا بد أن يكونوا مختلفين فيما بينهم، وهذا يدل على أن القول بأن أهل الإيمان فيه سواء خطأ، فلا نقول: في أصله، ولا نقول: إن الإيمان واحد، كل هذا الكلام خطأ بحسب الإجمال والتفصيل، وبحسب البلاغ والعلم كلها، فالإجمال والتفصيل كما ذكرنا في الأنبياء السابقين، إلا أننا نقول في هذه الأمة نفسها، فمن قرأ كتاب الله وجد فيه خمسة وعشرين رسولاً، فلا يستطيع أن يؤمن بأربعة وعشرين ويترك واحداً، لكن عامياً من العوام نعلمه بأن يؤمن بذلك، حتى في الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد علم الرجل المسيء في صلاته الأركان، لكن العالم وطالب العلم الذي يعرف مستحبات وأدعية في الصلاة؛ فإنه يؤمن بشيء أكثر، ويؤدي الصلاة أكثر، وهكذا فرق بين الإجمال والتفصيل، وهكذا في كل أمور العبادات حتى في الحج، فحج الفقيه المستبصر الذي يحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم ليس كحج أي واحد من العامة، حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عروة بن مضرس في مزدلفة فقال له الرسول من صلَى صلاتنا هذه وكان بالأمس قد وقف المقصود المبيت بـعرفة في ساعة من ليل أو نهار فقدتم حجه وتم نسكه أهم شيء في الحج أن تكون قد وقفت في عرفة ثم بت في مزدلفة ، لكن الإهلال متى يكون؟ هل يكون من البيت أو من الميقات أو إذا استقر على الدابة أو قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ وماذا يقول؟ ثم يطوف طواف القدوم، ثم يظل في منى إلى يوم التروية فيصلي بها خمسة فروض، فهذه أشياء كثيرة ما جاءت، والمهم أن هذا الرجل أدى الشيء الذي يسقط عنه به ركن الإسلام، كما أن ذلك في صلاته قد علمه النبي عليه الصلاة والسلام ما يكون به قد أدى الصلاة، لكن يتعلم بعد ذلك ويزداد.وكذلك التفاوت في الصدقة يكون في جنسها، بغض النظر عن الكثرة والقلة؛ لأن الله يقول: (( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ))[آل عمران:92] ويقول: (( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ))[البقرة:267]، فإذا كنت الآخذ فلا تأخذ إلا على إغماض، أما إذا كنت المعطي فلا تيممه، ولكن الجنس، فقد يكون أفضل ما عندي أقل ما عند الآخر، فبعض الناس أحسن ما عنده سيارة قديمة، وبعض الأغنياء أحسن ما عنده سيارة حديثة جديدةً، لكن الذي عنده سيارة قديمة قد تصدق بأفضل ما عنده، فنال البر؛ لأنه أنفق أفضل ما يحب، وكذلك ليست العبرة بالكثرة، وإنما العبرة بالإخلاص، فهذا دفع ريالاً وذلك دفع ريالاً، لكن بينهما من التفاوت ما الله به عليم، فهذا أعطى الريال عن إخلاص ويقين، وهو صحيح شحيح يرجو الغنى ويخشى الفقر، وله ذرية وعيال، والريال بالنسبة له شيء كثير، أما الآخر فأعطى ألف درهم مجرداً عن ذلك، وربما شابها شوائب من الرياء والعياذ بالله، فيكون قد سبق درهم ألف درهم، وبالتالي فالتفاوت يحصل في الكمية والنوعية والإجمال والتفصيل.القول: (بأن الإيمان واحد) خطأ، والصحيح: أن الإيمان متفاضل متفاوت، أي: يزيد وينقص كما أجمع السلف الصالح، وقد ذكرنا الأدلة على الزيادة والنقصان من القرآن ومن السنة، ونقلنا أحد عشر نقلاً للإجماع على ذلك.إذاً هذا الموضوع من جهة تقريره مفروغ منه، ولكن نريد إيضاحه وبيانه بهذه الأمثلة النقلية والعقلية التي يتبين بها أن عبارة الشيخ هذه في غير محلها، فإذا أردنا أن نصححها نقول: (والإيمان يزيد وينقص، وأهله يتفاضلون فيه)، ولا إشكال بعد ذلك فيها.